التفكير إستراتيجي، هو ذلك النوع من التفكير الذي يبصّر بالأهداف ويحددها
ويجدولها بحسب الأولويات والأهمية، ويتعرّف بدقة على الإمكانات المتوفرة،
ويدرس الظروف المحيطة، ويتحسب للتداعيات الممكنة، ويستعد للتداعيات
المحتملة، ويقوم بعمليات الرصد والتقويم لكل مرحلة من مراحل العمل ويتحسب
لها ويلبس لكل حالة لبوسها؛ ويفكر في الخطوة التي تليها قبل أن يصل إليها.
وأحسب أن حالة الأمة ماسة لهذا النوع من التفكير إستراتيجي الذي يتجاوز حالة
الغضب، إذ الغضب المجرد لا يصوغ أجندات ولا يحدد أولويات ولا يرسم خططا
ولا يساعد أعمالا على النجاح؛ بل هو مجرد تنفيس عن مشاعر لحظة لا يسمن
ولا يغني من حلول لأزمات؛ والغضب في الجملة هو طاقة مشاعر سلبية ورد
النهي النبوي عنها بكل حال عندما قال للصحاب الجليل: لا تغضب.تفكير
استراتيجي في نصرة رسالة الإسلام وإيصال بلاغها المبين للعالمين، نصرة وإيصالا
يتجاوزان ردود الأفعال والتصرفات الآنية أو التوظيف السياسي، نصرة وإيصالا هما
جزء من مشروع متكامل للحوار الحضاري بين الأمم والشعوب وتجسير الفجوة بين
الثقافات بعد معرفة دقيقة بالآخر: أسسه ومسلماته الفلسفية ونسقه الأخلاقي، والأبعاد
التاريخية لمسألة سوء الفهم المتبادل والتجاوزات الدائمة من طرف في حق معتقدات
الطرف الآخر وقيمه ونظام اعتقاداته.تفكير إستراتيجي في التعامل مع الأزمات
والصراعات الثقافية التي يقابلها المسلمون في العالم ومحاولة بناء رؤية استشرافية
واضحة لموقف إسلامي محدد المعالم واضح القسمات يدرك السياق العام لعلاقات
الدول والشعوب ويستوعب العقبات التي تعترض طريق أي تحرك إسلامي إزاء
محاولة سن قوانين دولية تجرم التعرض للأديان أو السخرية منها، ومحاولة سن
تشريعات دولية ملزمة بعدم التعرض لمقدسات الشعوب ومعتقداتها، كما تدرك أي
الرؤية العقبات التي تعترض طريق أي معرفة دقيقة بالطرف الإسلامي: أسسا
فلسفية ومسلمات عقيدية ومنهج حياة وطريقة في العيش ورموزا مقدسة لا تسمح
الشعوب الإسلامية - قبل الحكومات- في التجاوز عليها أو الإساءة إليها سواء أكانت:
دينا أو حضارة أو تاريخا أو ثقافة أو عقيدة أو شريعة. فما أحوج أمتنا لمنهج في
التعامل مع الأزمات الثقافية؛ منهج يعمل على الحيلولة دون اندلاع الأزمة لا العيش
على مخرجاتها فضلا عن التكسب من ورءاها؛ وما أكثر الذين يعيشون على الأزمات
في عالم المسلمين بل ويقتاتون عليها.تفكير إستراتيجي يستثمر حالة الغضب على أحوال
عالم المسلمين التي تمور بها الجموع الحاشدة في العالم العربي والإسلامي التي تظلل
محور طنجة- جاركرتا ونراها في التجمعات والمظاهرات الغاضبة مع كل حادثة
اعتداء أو عدوان على أرض الإسلام وشعوبه؛ استثمارا يحول الغضب من طاقة
سلبية إلى محفزات إيجابية؛ وسلوك فاعل مستمر.تفكير استراتيجي يحي في الأمة
عوامل النهوض الكامنة وما أكثرها ويشحذ همم الشعوب وما أحدّها؛ ويستثمر
لحظات الإفاقة العابرة ويحولها إلى حالة دائمة من اليقظة كما كان من الممكن
أن يحدث في عمليات المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الأمريكية والغربية أثناء أزمة
الرسوم المسيئة للرسول الكريم أو أثناء العدوان الصهيوني على أهل فلسطين؛ حيث
تجاوبت مع دعوات المقاطعة مختلف الشعوب العربية الإسلامية وكان من الممكن أن
تتحول سلوكا استقلاليا ولو على المستوى الاقتصادي وما يتبعه ويفرزه من ملامح نظام
اجتماعي ونمط حياة بدأت تتبلور في المأكل والملبس لكنها – للأسف- ككل لحظات
الإفاقة مرت سريعا وإن طال أمدها قليلا ولم تتحول صحوة ويقظة دائمة الفعل
ومستمرة التأثير.كانت المقاطعة الاقتصادية من أهم لحظات الإفاقة في حياة العرب
والمسلمين في السنوات الأخيرة لأنها أضجت مضاجع النظام الرأسمالي الغربي، سواء
في رفض المنطق الاستهلاكي أو في البحث عن منتجات بديلة لدول إسلامية أو على
الأقل دول لا تظهر العداء الصارخ للمسلمين وقضاياهم حتى لا ترتد أموال المسلمين
طلقات في صدورهم.ما أحوج الأمة لتفكير استراتيجي يمكنّها من بناء رؤية شاملة تملك
زمام الفعل ومعاقد المبادرة، وخلق الوقائع على الأرض؛ رؤية تتجاوز بها حالات رد
الفعل، وتساهم في تجاوز أزمة الأمة الفكرية وحالة التردي الحضاري إلى مساحة أرحب
من صناعة الفعل الحضاري الذي لا يتأسس إلا على وعي شامل بأبعاد المنهج الإسلامي
وعلاقاته بالمناهج الأخرى وأصحابها إن تعاونا أو صراعا؛ تحالفا أو مهادنة. وهذا هو
الطريق الشاقّ الطويل الذي سار على دربه الأنبياء والرسل، درب إصلاح العالم وهدايته
بعد أن أعيته وأشقته المذاهب الأرضية التي أهدرت إنسانية الإنسان قبل أن تهدر عقائده
وقيمه الفكرية والخلقية، وهو الدور الواجب على ورثة الأنبياء والمصلحين ودعاة الخير
في كل مجتمع إكماله والسير على نهجه. حتى تشرق شمس حضارة تعبد الله حق
عبادته وتحمي حقوق البشر على اختلاف أديانهم ومعتقداتهم وتحترم مقدسات الشعوب
وثقافتها وخصوصياتها الحضارية.
بقلم الدكتور / عمرو عبدالكريم