"الدور الإقليمي" هو: داء سوريا ودوائها.ربما كانت هذه هي النتيجة التي من
الممكن أن نخلص إليها بعد الدراسة العميقة للدور السوري في المنطقة منذ بداية
حكم الرئيس الأسد الأب.لكن دعونا نبدأ القصة من أولها:"الدور الإقليمي" هو
ما عمل عليه النظام السوري على مدار ثلاثة عقود؛ لكن تغير المعادلات الإقليمية
هو الذي يفرض رؤية جديدة على النظام ربما كان من العسير عليه التكيف معها؛
أو هو يحاول وإن كانت محاولاته للإخفاق أقرب. لقد حاولت سوريا أن تلعب دورها
من خلال تأثيرها فيما عرف باسم "محور الممانعة" بأربع ملفات كاملة:
الأول: التحالف الإستراتيجي مع إيران.
الثاني فهو: استثمار الفناء الخلفي للساحة السورية في لبنان وتأثيرها القوي
على حزب الله بل وعلى مجمل السياسات والقوى اللبنانية.
الثالث: فهو الملف الفلسطيني من خلال علاقاتها الوثيقة مع حركات الرفض
الفلسطيني خاصة حماس والجهاد؛ علاقات تبدأ من توفير ملاذات آمنة - إلى
حين "طبعا" - وحتى الدعم المالي واللوجستي.
الرابع: فهو العمل على فتح قنوات خلفية لتسوية صراعها مع الإسرائيليين عبر البوابة
التركية.على مدار العقود الثلاثة الماضية لعب نظام الأسد الأب على التناقضات الدولية
حيث صاغت دمشق دورها الإقليمي ونجح صانع قرار السياسة الخارجية السورية في
تأمين هامش مقبول للتحرك السياسي سمح له - مع مرور الزمن- بوضع يده على
عدد من الملفات الإقليمية وأوراق القوة، كان لها أبلغ الأثر في ضبط توازنات المنطقة،
وإدارة صراعاتها المتشابكة بطريقة جعلت من سورية أحد اللاعبين الإقليميين الفاعلين.
بل وأحيانا كانت تتصرف كقوى إقليمية عظمى متناسية أو بمعنى أدق متجاهلة موازين
القوى الفعليّة على الأرض. حتى شكلت السياسة الخارجية السورية، أحد أهم مصادر
الشرعية للنظام السياسي. حتى أن كاتبًا كبيرًا مثل باتريك سيل قال: "إن أحد
الإنجازات الكبرى للرئيس الراحل حافظ الأسد، يتمثل في نجاحه بإخراج سوريا من
موقع اللعبة، والانتقال بها إلى موقع اللاعب في منطقة الشرق الأوسط". أمّا الذي
يجعلنا نقول أن سورية تجاهلت موازين القوى الفعلية على الأرض فلأنها بنت
وأسست دورها على وقائع ظرفية وبيئة دولية متغيرة، ولم تبنه على مقومات حقيقية.
حتى يمكن القول أن الذين بنوا أدوارهم الإقليمية على تناقضات النظام الدولي في
مرحلة تاريخية سابقة تجاوزهم الزمن لأن ثمة مرحلة جديدة عنوانها: تفكيك آليات
الصراع الدولي القديم؛ وقلب شروط اللعبة ولا مكان للاعبين على الحبال.أما فيما
يخص الملف الأول: فقد شكّل التحالف الوثيق مع الدولة الإيرانية أهم أدوات اللعب
في الملف الإقليمي حيث سادت رؤية سورية مفادها أن هذا التحالف من شأنه موازنة
متغيرات الوضع الإقليمي الحرج، بحيث تمنح دمشق هامشًا أوسع وقدرة أكبر على
التعامل مع القضايا الإقليمية، وخصوصًا أن إيران ذات ثقل ووزن مؤثرين في عدة
ملفات إقليمية، إلا أن هذه العلاقة في أحد جوانبها، تطلبت من سوريا شيء من التنازلات،
وأحيانا قدر من الخضوع للتوجهات الإيرانية ومصالحها التي اعتبرت سوريا أحد أهم
الحلقات المحورية لإستراتيجيتها في المنطقة. أما فيما يخص الملف الثاني: فيمكن القول
إن دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976 جاء في سياق الإندفاعة التي حققتها
سورية بعد عام 1970 على صعيد تكريس دورها الإقليمي كطرف فاعل في توجيه
مسار الأحداث الكبرى في المنطقة، فعلى الصعيد الإقليمي كان الوجود السوري في
لبنان قاعدة انطلاق لبناء الدور الإقليمي الذي صنعته سوريا لنفسها على مدى العقود
الماضية، والذي تمكنت عبره من فرض نفسها على مراكز صنع القرار الخاص بمنطقة
"الشرق الأوسط"، في مختلف العواصم الدولية والإقليمية المعنية بأمور المنطقة، كرقم
صعب لا يمكن تجاهل مصالحه الإستراتيجية في مختلف القضايا المتعلقة بمستقبل
المنطقة، ولا سيما القضايا المتصلة بقضية الصراع العربي- الإسرائيلي وتفرعاتها التي
تمتد في أكثر من اتجاه إقليمي ودولي. وفي هذا الإطار لا تشكل الحديقة الخلفية أو الفناء
الخلفي "لبنان" سوى أحد أوراق اللعب وأحيانا أوراق الضغط. لكن إلى حين.أما فيما يخص
الملف الثالث: فقد جاء الأسد الابن إلى سدة الرئاسة محملا بطموحات نخبة سياسية جديدة
(قيادات تكنوقراط – أفكار الإصلاح – نظم المعلوماتية) وهي نخبة سياسية ذات رؤية
حداثية وإعداد علمي رفيع، محاولا تأسيس شرعية بديلة أكثر انفتاحا إلا أن التركة التي
ورثها ثقيلة خاصة على المستوى الإقليمي وظروف دولية بالغة التعقيد. ولعل ذلك الذي
يجعلنا نؤكد أن النظام السوري يتعامل مع الملفات الإقليمية بمنطق أوراق اللعب أحيانا؛
وأحيانا أخرى بمنطق أوراق الضغط؛ ففيما يخص الملف الفلسطيني لن تتردد النخبة
البرجماتية الجديدة في دمشق أن تضحي بمن وفّرت لهم ولقياداتهم ملاذات أمنة أو دعم
لوجستي على مذبح المصلحة الوطنية وضرورات النظم ومنطق الضغوط الدولية؛ وما
تسليم الزعيم الكردي عبد الله أوجلان للحكومة التركية، أو تسليم المناضلين الأحوازيين
إلى السلطات الإيرانية في طهران عنا ببعيد؛ بعد أن كان يتم استقبالهم كرموز حركات
تحرير وطني وتفتح لهم الفلل في ريف دمشق. فنظام الأسد الابن يقرع طبول الحرب
وهو يسرع زحفًا للسلام حتى بدون شروطه القديمة، وربما كانت حركات سياسية كثيرة
من الذين يأويهم لا يسمعون سوى قرع الطبول.أما فيما يخص الملف الرابع: الخاص
بالعلاقات السورية التركية؛ فربما كانت إدارة هذا الملف من أهم نجاحات القيادة
السورية الجديدة ونخبتها الشابة؛ حيث تمت إدارة العلاقات مع تركيا ضمن أنماط
مغايرة للماضي ساعدت دمشق على استيعاب جانبًا من تداعيات الوضع الإقليمي الراهن.
فالزيارة التي قام بها الأسد الابن للمرة الأولى لتركيا أعطت مثالا على مدى التحلي
بالمرونة السياسية، حيث بادلتها تركيا زيارة رئاسية على نفس المستوى؛ أدت إلى
فتح آفاق جديدة للعلاقات بين البلدين، وربما ساعد على نجاح ذلك التحول هو سيادة
الثلاثي (جول وأوردغان وأغلو) على الجانب التركي، المهم أن التوافق التاريخي نجح
في تحويل العلاقات من مشارف أجواء حرب باردة - كادت تتطور إلى مواجهة ساخنة-
إلى فتح كل القضايا العالقة والملفات الشائكة بين البلدين: (قضايا الإرهاب - قضايا المياه
قضايا العراق والأكراد - العلاقات الثنائية - إزالة الألغام من مناطق الحدود المشتركة)
وبدأت ثمار هذه العلاقة الجديدة بالتعاون الاقتصادي والأمني في مناطق الحدود
المشتركة الطويلة وإزالة الألغام منها. وربما كانت هذه العلاقات الوثيقة مع تركيا هي
الثمن للعب دور في المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل؛ في محاولة لفتح
قنوات خلفية لتسوية الصراع معها.وإذا كان لنا من تعليق على التعامل الناجح مع أنقرة
فيمكن أن نقول: ربما تعلمت دمشق من تجارب التاريخ القريب أن مواصلة القبض
على جمر الدور الإقليمي لن يصنع حقائق سياسية ولن يحمي نظام. لكن تظل هناك
عقبات هيكلية تقف في وجه الدور الإقليمي السوري وتحد من طموحاته؛ لعل أهمها:
1- تخطي الدور الإقليمي لمقدرات سورية الوطنية، خصوصًا من الناحيتين الاقتصادية
والعسكرية، مما أدى إلى تآكل الأساس المادي لهذا الدور الذي أصبح عبئًا ثقيلا على الدولة.
2- عدم مراعاة ضغوط ومصالح القوى الكبرى، والتوازنات الدولية والإقليمية، مما
أدى إلى الاصطدام بأكثر من قوة دولية وإقليمية كبرى في وقت واحد.
3- تصاعد الدور النسبي للمنافسين الإقليميين، إذ أدت التوجهات العالمية الجديدة إلى
ظهور منافسين إقليميين جدد، طرحوا أنفسهم كقوى قادرة على مجاراة الاهتمامات
التي تطرحها البيئة الدولية الجديدة، وخصوصًا في القضايا الاقتصادية والتنموية.
4- عدم البحث عن مرتكزات جديدة للدور الإقليمي وأوراق للعب والضغط وشد الحبال
أو السير عليها- غير تلك التي تم الارتكاز عليها في مراحل سابقة.
فلقد جرت في نهر الأدوار الإقليمية مياها كثيرة.
بقلم / د. عمرو عبد الكريم